هل ضعفت قدرتنا على التفكير أم أن المشكلات أصبحت أعقد؟

هل أصبحنا نفكر أقل فعلا؟ أم أن تعقيد الحياة يرهق عقولنا؟ اكتشف الإجابة في مقال يدمج العمق بالبساطة حول التفكير في عصر السرعة

في هذا الزمن المتسارع لا يكاد يمر يوم دون أن نشعر بأن عقولنا مرهقة، مشتتة وغير قادرة على اللحاق بوتيرة الحياة ومجاراة مستوى تدفق أحداثها، وفي خضم هذا الشعور يتبادر إلى أذهان الكثيرين سؤال جوهري: هل تراجعت قدراتنا الذهنية فعلا، أم أن العالم من حولنا قد أصبح أكثر تعقيدا مما يمكن للعقل البشري أن يستوعبه بسهولة؟
وللإجابة عن هذا السؤال، لا بد من التعمق في جوانب متعددة من الحياة المعاصرة وتتبع مسار التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية والثقافية التي طرأت على الإنسان وبيئته
إن أول ما يمكن ملاحظته هو التغير الجذري في طبيعة المعلومات التي نتلقاها يوميا، إذ في السابق كانت مصادر المعرفة محدودة ومركزة إما على هيئة كتاب، محاضرة، أو حديث مع خبير مختص أما اليوم، فقد أصبحنا نعيش في بحر من المعلومات اللامتناهية، تتدفق إلينا عبر الشاشات من كل حدب وصوب وكل ذلك فضلا عما نتلقاه عبر الأثير، وهذا الفائض المعرفي لا يمنح العقل الفرصة الكافية للهضم والتأمل والاستنتاج، بل يدفعه إلى نمط استهلاك سطحي حيث تسيطر السرعة على العمق والتكرار على الفهم، وبذلك يبدو التفكير في ظاهره وكأنه تراجع بينما هو في الحقيقة محاصر مثقل بالضجيج الذهني
والأمر الثاني الذي ساهم في هذا الانطباع هو الاعتماد المفرط على التكنولوجيا، لا شك أن هذه الأخيرة سهلت حياتنا في مجالات متعددة، من الوصول إلى المعلومة في ثوانٍ إلى حل المشكلات المعقدة بنقرات بسيطة، غير أن هذه الراحة الذهنية التي توفرها التكنولوجيا قد أدت أيضا إلى تراجع القدرة على التحليل والتفكير النقدي، فلماذا قد نحاول التفكير أو تذكر شيء ما طالما أن الشيخ غوغل يستطيع أن يجيب في لحظة؟
هنا يظهر الخطر الخفي: التخلي التدريجي عن مهاراتنا الذهنية الأساسية
ويضاف إلى ذلك أن نمط الحياة الحديث لا يسمح لنا بالتفكير العميق، فالعمل المتواصل ويا للصدفة فهذا المقال تتم كتابته ومعالجته في الساعة الحادية عشر من ليل أكادير في أبريل من العام 2025، وهناك أيضا والالتزامات اليومية والإشعارات المستمرة من الهواتف الذكية والانشغال الدائم، كلها هذه أمور تسلب منا لحظات التأمل، وهي اللحظات التي تتولد فيها أعظم الأفكار، والحاصل أننا أصبحنا أسرى لثقافة الإنجاز السريع، حيث يقاس النجاح بكمية المهام المنجزة وليس بجودتها أو عمقها، وبهذا فالتفكير العميق في هذا السياق يبدو وكأنه ترف
ومع ذلك فإن التحديات التي نواجهها اليوم تختلف نوعا وحجما عما واجهته الأجيال السابقة، فنحن لا نتعامل فقط مع مشكلات فردية أو محلية، بل نواجه أزمات عالمية مركبة مثل أزمة التغير المناخي المصطنعة والحروب المعقدة متعددة الأبعاد والأهداف الجشعة، ثم هناك الفجوة الرقمية والأوبئة العابرة والمصدرة للقارات من طغمة قذرة، هذه القضايا تتطلب نمطا جديدا من التفكير يتجاوز ما يمكن أن يسمى بالتفكير المنظومي والذي يتعامل مع الشبكات والعلاقات المتداخلة بشكل محدود على شاكلة التفكير الخطي التقليدي، لذا فإن شعورنا بالعجز أحيانا أمام هذه القضايا لا يعني أننا أصبحنا أقل ذكاء، بل يعكس ليس فقط الحاجة إلى تطوير أدوات معرفية جديدة تتناسب مع طبيعة التحديات بل إلى العودة للفطرة إذ فيها الكثير من الأجوبة على كل ذلك
وفي سياق مواز نجد أن التربية والتعليم في كثير من الأحيان لم تواكب هذا التحول فلا زالت المناهج تعتمد على التكديس ولا تتيح المجال للطلبة للتفكير النقدي أو الإبداعي ولا تمنحهم الفرصة لاكتشاف جوانب أساسية من ذواتهم كعالم الروح مثلا، ويكرس هذا الاتجاه في بيئة إعلامية تفضل العناوين الصادمة وزراعة الخوف والشك بدلا من الوعي أو الايمان ولا حتى الثقة في الحكمة الإلهية، بل إنها تركز على التفاعل السريع على الفهم والتفهم والادراك والوعي الفائق، وهكذا يصبح التفكير العميق عبئا في مجتمعات وبيئات لا تشجعه ولا تكافئ عليه
أما عن سؤال هل فقدنا قدرتنا على التفكير حقا؟ في الواقع إن المسألة الأساس هي مسألة حالة الانفصال التي حدثت لدينا هي المسألة الملحة والتي أدت لما حدث على مستوى تفكيرنا، غير أننا سنجيب عن السؤال والجواب ببساطة هو لا فقدراتنا العقلية الأساسية لم تختف، لكنها بحاجة إلى إعادة تنشيط وصيانة تماما، وكما أن العضلة تضعف إن لم نستخدمها فكذلك هو الحال مع العقل، وما نحتاجه ليس فقط تقنيات جديدة، بل عادات جديدة: عادات تعيد ترتيب علاقتنا بالمعلومة وطبيعتها وضرورتها وأهميتها لنا وتمنحنا المساحة الذهنية الكافية للتفكير الحقيقي
ومن بين هذه العادات يمكننا أن نبدأ بإعادة تنظيم أوقاتنا بشكل يضمن لحظات من الصمت والتأمل، كما أن القراءة المتأنية لكتب طويلة ومركزة يمكن أن تساعد على تدريب الذهن على التحمل والتركيز، وكذلك يمكن أن يكون التدوين اليومي وسيلة فعالة لفرز الأفكار وملاحظة أنماط التفكير لدينا، ومن الضروري أيضا أن نعرض أنفسنا لأفكار مختلفة ومتضادة لأن ذلك يوسع من آفاقنا ويمنحنا أدوات لمقارنة وتحليل ما نتلقاه
التفكير إذا ليس عملية تلقائية كما قد نظن، بل هو مهارة تحتاج إلى بيئة حاضنة وإلى تدريب مستمر فنحن بحاجة إلى إعادة اكتشاف لذة التفكير ذاته لا فقط نتائجه، إن التحديات التي نعيشها قد تبدو مقلقة، لكنها في الوقت ذاته فرصة تاريخية لإعادة تشكيل وعي الإنسان بما يجعله أكثر مرونة وحكمة وأكثر قدرة على التعامل مع الحياة بوعي لا تستطيع تشكيله الأجندات الخاصة
كما أن للمجتمع دورا في هذا التحول فلا يمكن للفرد أن يعيد بناء قدراته الذهنية بمفرده إن لم تكن هناك ثقافة عامة تشجع على التفكير وتمنحه قيمته، يجب أن تعزز المنظومات مناهجها بأساليب تحفز على طرح الأسئلة لا فقط التلقي والتكديس، ويجب أن تتوقف وسائل الإعلام عن اختزال القضايا المعقدة في شعارات وأن تتجه نحو محتوى يغني المتلقي بدلا من أن يشوشه فهناك كارما ترد إن لم تكن هي تحترم قيمها فعلى الأقل تخاف رد الفعل ذاك، ويجب أن تتحول بيئات العمل إلى أماكن تحفز على التفكير الجماعي لا فقط الإنتاج الروتيني
باختصار إننا لا نصبح أغبى، بل نعيش في ظروف تجعل التفكير الحقيقي أكثر صعوبة، والمطلوب اليوم ليس فقط الصمود أمام هذه الظروف، بل مواجهتها بإرادة واعية واستراتيجيات ذكية وبيئة داعمة، إن العالم لا ينتظرنا لنتأقلم معه، بل هو في حركة دائمة وكل تأخير في تطوير أدواتنا الذهنية يعني مزيدا من التهميش والتبعية
في النهاية، يمكن القول إن التفكير ليس رفاهية، بل هو ضرورة وجودية في هذا العصر المتغير، وهو ليس مهمة النخبة فقط، بل مسؤولية كل فرد يسعى إلى أن يفهم لا فقط أن ينجو، التفكير هو طريقنا لفهم أنفسنا والعالم وهو ما يمنح لحياتنا المعنى والاتجاه، علينا أن نعيد اكتشاف هذه الحقيقة، وأن نجعل من التفكر عادة يومية نتحصن بها من التكلس ونسلح بها أرواحنا في مواجهة تعقيدات العصر، وعندما نفعل ذلك فإننا لن نشعر بأننا تراجعنا بل سندرك كرم الله الحق