كيف تطور تقديرا ذاتيا إيجابيا وصورة صحية عن نفسك؟

مقال يتناول مسألة تقدير الذات والصورة الإيجابية عنها من خلال الوعي، التقبل، وتطوير العادات اليومية التي تعزز قيمتك الداخلية

في خضم الحياة اليومية بين العمل والانشغالات الشخصية والضغوط الاجتماعية يغفل الإنسان عن نفسه، ويبدأ دون وعي في تبني صور مشوهة عن ذاته مبنية على الانتقاد والمقارنة والخذلان، وقد يجد نفسه بعد فترة ينظر إلى المرآة ولا يرى سوى النسخ غير المكتملة من توقعات الآخرين وافتراضاته الغير واعية المبنية على الوهم، وهنا يتجلى سؤال وجودي عميق: كيف يمكن للإنسان أن يبني علاقة صحية مع ذاته، وكيف يمكنه تطوير تقدير ذاتي لا يهتز أمام العثرات، وبناء صورة داخلية يرى فيها قيمته دون الاستعانة بمرآة أحد؟
إن الخطوة الأولى دائما ما تبدأ بالوعي، فالوعي هو الشعلة التي تضيء أعماق النفس وتكشف ظلمها وظلامها، إننا عندما ننتبه إلى حديثنا الداخلي والكلمات التي نكررها في خلواتنا ندرك أن كثيرا من هذا الخطاب سلبي، معيق، وغير عادل وليس يعبر عن حكمتنا الأصيلة، نلوم أنفسنا على ما لا نتحكم فيه، ونعاقب ذواتنا ببشاعة على أخطاء بشرية، ونقارن بين واقعنا المعقد وصور مثالية منمقة لحياة الآخرين على وسائل التواصل، ولكن حين ندرك خطورة هذا النمط يمكننا تغييره إن توفرت لدينا العزيمة والصدق في الادعاء، لا أحد يولد وهو يكره ذاته بل نتعلم ذلك عبر التجارب، وبما أن الحال هكذا فالبشرى مضمرة في ذينك الخبر السيء ولهذا فإنه يمكننا أن نعيد التعلم من جديد بما أن التعلم والعلم هو مدخل ما يسر وما لا يسر
التقدير الذاتي لا يعني الاغترار أو النرجسية، بل هو الاعتراف بالقيمة الداخلية غير المشروطة كنوع من شكر النعم الإلهية، أن تؤمن بأنك تستحق الاحترام حتى لو أخطأت وأن تعترف بأنك إنسان في تطور دائم وهو لن يتطور مادام يرفض طبيعته الخطاءة، إن هذا الإيمان لا يأتي من الخارج بل يزرع من الداخل من خلال قوة الصلة وعبر التكرار والتأكيد واستلهام الحكمة من التجارب التي يمكن وصفها بالسيئة وبناء التجارب الإيجابية
في الواقع يمكن لتقنيات بسيطة أن تحدث فرقا كبيرا، وعلى سبيل المثال فقط فإن تخصيص وقت يومي للامتنان وتدوين الأمور التي أنجزتها أو الأمور التي تحبها في نفسك، وبالمناسبة فهذه ليست تمارين سطحية، بل هي وسيلة لإعادة تشكيل المسارات العصبية في الدماغ نحو نمط أكثر إيجابية، وكذلك يمكن أن يكون الحديث الإيجابي مع النفس عاملا شافيا كأن تقول لنفسك مثلا: أنا أعلم بأني أبذل جهدي، وأنا اليوم أقدر هذا وهذا كاف، أو: أنا أستحق الحب والاحترام تماما كما أنا وأقبل أن أتعلم ما لا أعلم لأتطور وأزدهر بلطف
أيضا يلعب المحيط دورا محوريا من الصعب بناء صورة صحية عن الذات وأنت محاط بأشخاص يحبطونك أو يقللون من شأنك، لذلك فمن الحكمة أن نعيد النظر في نوعية علاقاتنا وشكل استجاباتنا لها، وأن نحيط أنفسنا بمن يعززوننا لا يشككون بنا، إن الدعم الاجتماعي ليس ترفا بل ضرورة نفسية وإلا ما كانت من جدوى من وصية: .. فليقل خيرا أو ليصمت
من جهة أخرى تساعد الأهداف الصغيرة والنجاحات اليومية على تعزيز تقدير الذات، فحين نضع أهدافا قابلة للتحقق وننجزها فإننا نبني ثقة متراكمة وهي لا تأتي من لا شيء، بل من التراكم التدريجي لتجارب النجاح والتعامل بنجاح مع التجارب الفاشلة، في الواقع نحن نشجع على الإنجازات الضخمة والهائلة ولكن لا يجب بالضرورة أن تكون ضخمة خاصة في البدايات، بل المهم أن تكون صادقة ومبنية على الاستمرارية
وفي لحظات الإخفاق أو الضعف لا بد من أن نتذكر أن الرحلة نحو تقدير الذات ليست خطا مستقيما، بل هي طريق ممتلئ بالمنعطفات والمهم في سلوكه هو أن نتعامل مع أنفسنا بلطف، وأن نتعلم من التجربة بدلا من جلد الذات، إن القبول هنا هو مفتاح التحول، فنحن حين نقبل ونتقبل حقيقة أننا لسنا كاملين نتحرر من وهم الكمال ونبدأ في النمو الحقيقي وهذه هي أبهى صورنا المثالية وهي القبول بالضعف
إن صورة الذات في نهاية المطاف هي الانعكاس العاطفي لما نعتقده عن أنفسنا، وكلما تغذت هذه الصورة برسائل إيجابية وبعلاقات صحية وتجارب ناجحة كلما أصبحت أكثر إشراقا وواقعية، لكن من الجيد اليوم الوعي بأن التغيير يبدأ من الداخل، من قرار واع بأنك تستحق أن تنظر إلى نفسك بحب لا بحكم
إن تقدير الذات لا يمنح بل يكتسب بالصبر وبالتدريب وبالرحمة والمرونة، وهو دعوة دائمة لأن تكون صديقا إن لم يكن لنفسك فلرسالتك فأنت في النهاية ستقضي مع نفسك أطول وقت وأجدر بك والحال هكذا أن تقضي هذا الوقت بسلام لا منغمسا في الصراع