متى يخلق النسيان الألم والفرح؟
النسيان… أهو لنا أم علينا؟ يخلق فينا الألم حين ننسى حقيقتنا، ويمنحنا الفرح حين نتجاوز ما يؤذينا، لكن متى يكون النسيان تحررا، ومتى يصبح قيدا؟ في هذه المقالة، نغوص في أعماق علاقتنا بالذاكرة والنسيان، وكيف يؤثران على مشاعرنا وتوازننا الداخلي
عبد النبي بكون
3/8/20251 min read


في هذه المقالة أيها السادة سنجيب عن أسئلة تعكس عمق التجربة الإنسانية، ذلك التفاعل الدقيق بين النسيان والتذكر وتأثيرهما في تشكيل وتجسيد الألم أو الفرح لدينا، في قلب هذا التساؤل، إنها دعوة للتأمل في طبيعة وجودنا ومظاهر الزيف والحقيقة والأبعاد الخفية التي تشكل واقعنا النفسي والروحي وتعيد تشكيل واقعنا المادي
لن يكون من العبث إعادة القول بأننا ننسى حقيقتنا الأصيلة، وإن كان هذا قد أصبح هذا معلوما بالضرورة لديكم أيها السادة، غير أن ذلك النور الداخلي الذي يرشدنا نحو التوازن والسلام دائما ما يجد الوسيلة لإيصال رسالته، لأجل ذلك قد نجد أنفسنا في مواجهة آلام تبدو وكأنها خارجة عن إرادتنا ونتذكر جروحا وأحداثا تضخمت في وعينا حتى غدت عوائق تمنعنا من اختبار شعور الحرية، إن بين النسيان والتذكر تبرز لحظات الفرح كإشارات تدعونا إلى العودة إلى ذاتنا الحقيقية، حيث نجد السلام والانسجام، ومثل ذلك يفعل الألم حين يحسن فهمه
في هذه المقالة نستكشف كيف يتشابك الألم والفرح في نسيج الحياة، وكيف يمكن للنسيان والتذكر أن يصبحا أدوات لفهم أعمق لوجودنا، هي ببساطة رحلة تجلي نسختنا المثالية، رحلة نحو اكتشاف ما نحن عليه حقا، وما يمكن أن نكونه حين نسمح لأنفسنا بأن نعيش بحرية وصدق وتجرد من كل ما ليس نحن
ما الذي ننساه حتى نتألم؟
في التجربة المؤلمة ولحظة ما ننغمس في الألم نحن نفقد القدرة على التمييز بين من نحن ومن يختبر التجربة، وذلك لأن المنغمس في آلامه لا يستطيع أن يرى أو يرصد الحكمة وقد انشغل بالألم والمؤلم فاستدرجته الأنا لخلق سلسلة دراماتيكية تعزز حالة العمى الوهمي لديه، وبذلك يشق التذكر إلا أن تنالنا من الله رحمة، والحقيقة هي أن الأنا تعمد تعزيز حالة العمى الوهمية هذه لأنها تعلم علم اليقين بأن في تذكرك زوال الألم غذائها الأساس
عندما ننسى حقيقتنا الأصيلة ذاك الحيز شبه المقدس الذي يعرف وجودنا يبدأ الألم في التشكل، وكما نسينا من نحن ننسى أن الحياة ليست حربا ننتصر فيها أو نخسر، بل هي رقصة بين البدايات والنهايات، بين العطاء والاستقبال، ننسى بأن الألم في جوهره إنما هو مؤشر انحرافانا عن مسارنا الطبيعي
ننسى بأننا حين ننسى إنما نفترض بأن الكون وهذا الوجود عدو يخطط لإيذائنا والإمعان في قهرنا والتنكيل بنا، وننسى بأنه ليس سوى مرآة تعكس حالة وعينا، حين نهرب مثلا من التعامل مع مخاوفنا إنما نحن ننسى بأن الخوف مجرد أداة لاكتشاف ما لا نجرؤ على لمسه فينا والاعتراف به، ننسى أننا لسنا مجبرين على حمل أثقال الماضي أو الخضوع لسيناريوهات المستقبل المقلقة، الألم ينشأ من هذا النسيان ومن فقدان الارتباط بجوهرنا، حين ننسى فنحن ننسى أن نتذكر بأننا أكبر من التجربة المختبرة، ننسى أن نتذكر بأننا لسنا التجربة المختبرة، بل من يختبر التجربة التي لابد وأن تمر كما مرت من قبلها تجارب أخر لربما أشد منها، وإن كنا من يختبر التجربة فلابد من أن هناك ما لا نعرفه عن أنفسنا ونحن لن نعلمه بالانغماس في الألم والمؤلم في التجربة، بل في خبرتها وتجاوزها، وحين ننسى وكان فضل الله عليك عظيما وقل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا
وما الذي نتذكره حتى نتألم؟
كل ما ليس نحن.. كل الزيف الذي نظن بأنه نحن، خيبات الأمل، الجروح القديمة، والشعور بأننا مرفوضين أو غير كافين، نتذكر قصصا رويناها لأنفسنا عن الفقد، عن الظلم، وعن الانكسار، وكأنها حقائق مطلقة لا يمكن التفاوض معها، نتذكر ما قيل لنا يوما عن أنفسنا من الآخرين، وفي الآن نفسه ننسى بأن كلماتهم لم تكن سوى انعكاسات لحالتهم هم من جهة، ومن أخرى أتت لتستفز استعدادنا فتمنح وعينا الفرصة لإعادة التشكيل بما يظهر نسختنا المثالية لولا أننا انشغلنا بالزيف فلبسنا جبة مزيفة
الألم والمعاناة فيه ينشآن عندما نستدعي ذكرى معينة ونحملها ما لا تحتمل، وعندما ندمج بيننا والتجربة المختبرة، وأيضا حين نتبنى مسؤوليات ما ليس لنا أو من حقنا أو من شأننا، وحين نتصل بالشعور المزيف بالحاجة للتحكم أو بكوننا ضحايا مضطهدين أو مغدورين، وأيضا حين استحضار العجز والتصديق بأننا عجز، وقس على ذلك كل أشكال الزيف مما يتعارض مع الخلقة على أحسن تقويم
ما الذي حين لا نكونه أو نتجاوزه نفرح؟
يفرح المرء حين يكف عن الحاجة لاختبار الشقاء والتعاسة وعيش الدراما والحاجة للتحدي، نحن نعلم بأن الكثيرين لا تحلوا لهم الحياة بدون كل ذلك، غير أننا لن نختبر الفرح إلا عندما نتوقف عن أن نكون كل ما هو زائف، عندما نكف عن لبس أقنعة إرضاء للآخرين أو استجابة لتوقعاتهم، وعندما نكتفي من البقاء سجناء لقصص إنما جاءت لتمنحنا القوة فما كان منا إلا أن استهلكناها لتكريس الزيف
ومثل كل ذلك نفرح عندما لا نكون أسرى للقلق بشأن المستقبل أو للندم على الماضي، وعندما نتحرر من الأحكام القاسية التي نصدرها على أنفسنا ونعيش في بساطة اللحظة الراهنة، سنشعر بقوة الفرح بداخلنا حالما نشفى من صدمة عدم اختبار كل الأشياء الرائعة الجميلة التي كان يفترض أن نعيشها ونتلذذ بها غير أن ذلك لسبب ما لم يحدث، وأما من أين جاء هذا الافتراض فهذه مسألة أخرى يمكننا العودة لها في مقال مخصص
ما الذي حين نكونه نفرح؟
الفرح يتجلى عندما نكون ممتنين وحين نكون منفتحين على الجمال الخفي في كل شيء مهما كان بسيطا، وحين نرى بأن الحياة ليست سلسلة الأحداث بل حالة من الوجود، نفرح عندما نكون متصالحين مع واقعنا والتجربة المختبرة ونجد في كل لحظة فرصة للنمو والإبداع، أي حين تتجلى قدراتنا العظيمة في المواقف وحين لا يكون أي شيء مما يحدث شخصيا، وحين نجرد التجربة المختبرة وعناصرها من المعنى الذي يغذي النسخ المزيفة لدينا، حين نكون فطرتنا نفهم قوانين الحياة ونكون في عناية من الشقاء
ختاما، الألم والمعاناة فيه أو الشقاء والفرح كلها ثنائيات تشكل رقصة الحياة، الأول يذكرنا بما نحتاج إلى تعلمه أو تجاوزه، والثاني يظهر لنا ما نستحقه وما يمكن أن نكونه، إن سر الحياة ليس في الهروب من الألم أو معاداته ولا في مطاردة الفرح والقنوط منه، بل في قبول التجربة المختبرة كجزء من الرحلة وقبول نسختنا المثالية وإمكاناتها الغير مدركة للوعي المحكوم بالزيف